100 عام من الريادة الهادئة القرن المهيب للمسرح البحريني «2-3»
الوطن نيوز -

خالد الرويعيبعد مرحلة مدارس البنين، جاء الدور الآن على مدارس البنات. فلقد امتدت هذه الشرارة إلى مدارس البنات عبر الحوراني نفسه، في زمنٍ لم يكن فيه التعبير النسوي أمراً ميسوراً، فكان المسرح نافذةً نحو الحرية والتنوير. حيث كانت المدرسة الخليفية للبنات سبّاقة في تبني النشاط المسرحي، مستحضرةً روح التعبير في عروضٍ كـ«داحس والغبراء» (1932)، و«الوصي الخائن» (1938)، و«دعد أميرة غسان» (1939)، وغيرها من الأعمال التي شكّلت علامة على وعي تربوي وثقافي متقدم. فلم تكن نصوصاً تمثيلية فحسب، بل كانت بيانات ضوء في زمن العتمة، وصرخات جيلٍ يبحث عن صوته.ثم جاءت الثلاثينات، وتحول المسرح من فضاءٍ تعليمي إلى فضاء أهلي، ففي المدرسة الأهلية لمؤسسها الشاعر إبراهيم العريض يقدم مسرحية «وامعتصماه» عام 1931 كأول نص محلي من تأليفه واخراجه، ثم مدرسة الإصلاح الأهلية والتي أسسها الشاعر عبدالرحمن المعاودة فيقدم مسرحية «عبدالرحمن الداخل» عام 1936 وغيرها من المسرحيات التي لم تنقطع حتى الخمسينات.ولم تمضِ السنوات حتى تصبح الأندية منابر للعرض، حيث قدّم نادي البحرين مسرحية «مجنون ليلى، وتبعه نادي الإصلاح لاحقاً بمسرحية ذي قار في 1953. لتكتمل دائرة الوعي المجتمعي بقدرة المسرح على أن يكون أكثر من مجرد لهو، بل صوتاً وفكراً وموقفاً.أما في الخمسينات، فولدت المرحلة المؤسسية، التي قدّمت للمشهد فرقًا ذات هوية، تنبض بالاحتراف والطموح. كانت «ندوة الفن والأدب» التي أُسست عام 1956، بمثابة حجر الأساس لفرق مثل «الفرقة التمثيلية المتنقلة»، و«فرقة البحرين التمثيلية»، و«أسرة هواة الفن»، و«مسرح الاتحاد الشعبي». فلم تكن هذه الفرق مجرد كيان تنظيمي، بل كانت محاولة لصياغة خطاب مسرحي وطني متكامل، متعدد المشارب، وإن ظل في جوهره، بحريني الروح والملامح ومن دون خبرة أكاديمية سابقة.سكينة القحطاني وريادة التمثيل النسائيعند دراسة بدايات التمثيل النسائي في الخليج، يُلاحظ أن التأريخ الرسمي غالباً ما يبدأ مع ظهور المرأة على خشبة المسرح في الستينات والسبعينات، خاصة في الكويت والبحرين. غير أن هذه المقاربة -في ظني- تُغفل تجارب نسائية سابقة، كانت تنمو بهدوء داخل المؤسسات التعليمية، وخصوصاً المسرح المدرسي، الذي شكّل مهداً مبكراً للتجربة والتعبير الثقافي. ومن بين هذه التجارب، تبرز سكينة محمد القحطاني (1914-1998)، التي يُمكن اعتبارها واحدة من أوائل الممثلات في الخليج، وربما أولهن، حيث مارست التمثيل المسرحي عام 1938 مع تأسيس مدرسة خديجة الكبرى في المحرق، التي كانت واحدة من أولى المدارس النظامية للفتيات في البحرين، واستمرت في أداء أدوارها في ست مسرحيات أخرى لاحقاً، «الوصي الخائن 1938»، و«دعد أميرة غسان 1939»، و«بر الوالدين 1940»، و«سلمى 1941» و«وفاء العرب 1942». حيث قدمت هذه المسرحيات ضمن تقاليد العروض التي كانت تُنظّم بمناسبة نهاية العام الدراسي. ورغم أن هذه العروض لم تكن تُقدّم للجمهور العام، إلا أنها شكّلت أولى بذور الفعل المسرحي النسائي مما يضعها في صدارة الممثلات الخليجيات الرائدات، ليس من باب السبق الزمني فحسب، بل من زاوية الممارسة الفعلية والاستمرارية، في سياق ثقافي واجتماعي كان محافظاً بطبعه.وفي ظني ما يبرر ذلك هو السبق الزمني. فمشاركتها سبقت الكثيرات بأكثر من عقدين كما تشير أدبيات بدايات التمثيل النسائي العلني في الخليج. أما المبرر الآخر كما أراه هو أن مشاركتها لم تكن محصورة في تجربة واحدة، بل تكررت في سبعة أعمال، ما يمنحها صفة «الممثلة» المؤسسة لا مجرد «الهاوية». كما أن المسرح المدرسي في البحرين لعب دوراً تاريخياً في نشأة المسرح الخليجي، وكانت القحطاني جزءاً من هذا التكوين الأولي بدليل أنها أنخرطت في سلك التعلم والنشاط الثقافي والنسوي. وهذا الانخراط في العمل المسرحي في وقت مبكر يعكس شجاعة ثقافية واستثنائية في كسر الأعراف السائدة آنذاك حول دور المرأة.إن إعادة تسليط الضوء على تجربة سكينة القحطاني هو فعل تأريخي ونقدي ضروري لتصحيح الخلل في كتابة تاريخ المسرح الخليجي، الذي كثيراً ما يُقصي أو يُهمّش المساهمات النسائية المبكرة. كما أن ذلك يُعيد رسم صورة أكثر اتساعاً لحضور المرأة في الفضاءات الثقافية الخليجية، ويؤسس لمفهوم «الريادة الهادئة» التي لم تُوثق بشكل كاف.الوعيبضرورة المأسسةومع تشكل الوعي والنظم المؤسسية الأهلية في الدولة. بدأت النخب بتشكيل أولى هذه المؤسسات التي تُعنى بالثقافة، فكانت أسرة الأدباء والكتّاب عام 1969 وأعقبها تأسيس مسرح أوال عام 1970، وكل هذه الدوافع في ظني هي الأسباب ذاتها التي دعت الجمعيات الأخرى إلى أن يكون لها كيانها الخاص. «فكانت هزيمة يونيو 1967 إحدى أهم الأحداث العربية التي لعبت دوراً واضحاً في الدفع بالتحرك الفعلي. لقد عجَّلت بالاندفاع نحو عمل شيء ما كجزء من أمة مهزومة لتوِّها تتطلع وبكل الطرق لتنفض عن نفسها آثار الهزيمة وتجترح آفاقاً جديدة للبناء (...) فأثَّرت تلك الأحداث على مثقفي البحرين وشبابها وزاد وعيهم الوطني وانزرعت في أنفسهم روح الحماسة الوطنية والتوجه للعمل بكل الإمكانيات من أجل مستقبل أفضل لبلادهم عبر عمل إيجابي من أجل إعادة بناء الأمة العربية والعقلية والثقافة العربية وبناء التنظيمات السياسية والمؤسسات الاجتماعية القادرة على إحداث التغيير المرجو». (1).فبدأت أولى ملامح هذه الكيانات مع مسرح أوال الذي تأسس في 14 سبتمبر 1970 وكان في البداية بإسم (المسرح البحريني) وبعد عام واحد من التأسيس تغير الاسم إلى (مسرح أوال). فكان من أهدافه النهوض بالحركة المسرحية في البحرين من خلال رؤية مغايرة لما هو سائد من مفهوم للمسرح في تلك الفترة. لقد تأسس المسرح ليقدم بعض العروض المسرحية الجريئة التي ناقشت قضايا لم تطرق من قبل.الآن وبعد الوعي بأهمية هذه المأسسة. تقترب العروض المسرحية من الناس أكثر. فللمسرح سحره الخاص، وتأثيره في المجتمع، لقد أدرك الشباب آنذاك من الذين احتضنهم المسرح أهميته، فصار ملجأ ومدرسة مهمة في ترسيخ مفاهيم التنمية داخل المجتمع، فكان له دور مهم في معالجة كثير من النوبات المجتمعية التي مرت بها البشرية قاطبة، ولهذا فإن الفن ليس مهماً فقط في خطابه ومحاكاته للناس، بل في المفهوم الحقيقي لمعنى الفن ألا وهو مفهوم الجماعة وبناء الفريق في الفنون الجماعية، أو بمعنى أدق الفنون التي تقوم على أساس الفريق، ولهذا فإن المسرح يتمتع بجاذبية وعلاج مهم في كثير من الأحيان، وفنون الأداء وحدها القادرة من بين الفنون واللقاءات المجتمعية على تذويب مثل هذه الإفرازات.ففي تلك الفترة واجه «أوال» الكثير من التحديات، ومن جملتها أن يؤسس آخرون مسرح الجزيرة عام 1974 وتبدأ البعثات لدراسة المسرح فمنها إلى الكويت ومصر. ومن هنا بدأت ملامح العمل المؤسساتي إدارياً وفنياً فأصبحت المهام والمسؤوليات الفنية أقرب إلى الوضوح وأقرب إلى أن يكون هناك نص ومخرج وممثلون، هنا تكمن الانطلاقة حتى ظهور حركة مسرح خريجي المعاهد مطلع الثمانينات الذين جاؤوا بنفس مغاير عما هو سائد من حيث طبيعية النصوص وأشكال التناول الفني. يضاف إلى ذلك مأسسة حركة مسرح الأندية الشبابية والمسرح المدرسي الذي كان يستقطب بعض الأشكال والوجوه الجديدة للساحة المسرحية آنذاك.لكن في النصف الثاني من عقد الثمانينيّات يحدث أن تخرج إلى السطح مفاهيم مختلفة تماماً عن ما هو سائد وهو بالأساس مفهوم التعامل مع الممثل وطرق تدريبه الجديدة والتبشير بالمسرح التجريبي في الخليج العربي وذلك على يد الفنان عبدالله السعداوي في نادي مدينة عيسى الذي تعامل حينها مع الممثل على أسس منهجية عالمية بعيداً عن الممثل التلقائي أو المدرسي.بظهور السعداوي بدأت ملامح المسرح التجريبي في البحرين وتنادى حينها من يؤمنون بهذا التوجه كالمخرج إبراهيم خلفان الذي كان يعمل على الضفة الأخرى كأحد المجربين لكسر الهيمنة الأكاديمية في التعامل مع طبيعة العرض، ومنها أيضاً استقطاب وتدريب الكثير من الشباب الجدد فنياً كحالة تقنية وحالة ثقافية وهي أولى ملامح التشكيل لجيل جديد يُؤْمِن بهذا الشكل المغاير لحركة المسرح في البحرين.«1» جمعية أوال النسائية «نصف قرن من العطاء والإنجاز 1970-2020» «دراسة وثائقية».



إقرأ المزيد