«أصيلة».. الإسلام السياسي إلى أين؟
إيلاف -

عقد منتدى «أصيلة» بالمغرب (من 20 إلى 21 أكتوبر 2024)، ندوته «الحركات الدِّينيّة والحقل السّياسيّ: أيُّ مصير»؟ وهي واحدة مِن ثلاث ندوات، في موسمه الخامس والأربعين. تُقام النَّدوات عادة في جامعة «المعتمد بن عباد المفتوحة» بأصيلة. شارك فيها سياسيون، ومهتمون بتاريخ الإسلام السّياسيّ، مِن بلدان شتى، وفي الغالب كلٌّ قدم تجربة بلاده.
فقد اختلفت تحولات الجماعات الإسلاميّة مِن بلاد إلى أخرى، منها سُلمت لها الإدارة وفشلت، فتراجعت عن شعارها «الإسلام هو الحلّ»، وما عادت تنادي به حتّى همساً، ومنها مكنتها الظّروف، ولو أحسنت الأداء، لرفعتها النَّاس، كما رفعت جنوب أفريقيا مانديلا (ت: 2018)، لكنَّ «فاقد الشَّيء لا يعطيه»، فصارت مهيمنة بأجنحتها المسلحة، ولو قطع حبلها السّري بالخارج، لانتهت بطرفة عين، لأنّها لم تُقدم شيئاً، بل صار وجودها كارثةً على النَّاس.
نشأ الإسلام السّياسيّ مخالفاً للزمن، فالحرب العالمية الأولى (1914-1918)، أنهت عصر الإمبراطوريات، المعتمدة كونيّة الدّين، وبدأ عصر الدّولة الوطنية، فلإحياء الخلافة ظهر الحزب الدِّينيّ عابراً الدَّولة، والمخالفة الثّانيّة للزمن، أنَّ هذا الحِزب الدِّيني ليس لديه جديدٌ، القديم هو جديده، وما «الحاكميّة»، بعنوانها السّنيّ، و«ولاية الفقيه» بعنوانها الشّيعيّ، إلا لاستقدام الماضيّ تعسفاً، فالقوانين المعاصرة تُعد وضعية، وبالتالي كافرة، وعليه اعتبروا «العلمانيَّة» كافرة، يشمل ذلك رجال دين ومؤمنين، ممَن لا يرى شرعية الدَّولة الدِّينية.
طرحت النّدوة تداعيات «الرّبيع العربيّ»، وتلقفه مِن قِبل الجماعات الدِّينيَّة، فشكلت أحزابها بألفاظ لا تقر بمعانيها، وقد أجاد معروف الرُّصافي (ت: 1945) القول مبكراً: «لا يخدعنك هِتاف القوم بالوطنِ/ فالقومُ بالسرِّ غيرَ القومِ بالعلن/إحبولة الدِّين ركَّت مِن تقادِمها/ فاعتاض عنها الوراء أُحبولة الوطنِ» (الدِّيوان، الدِّين والوطن). بعد أن جُربت الجماعات السّلطة، صارت وجهاً لوجه مع المعضلات الاقتصادية والسّياسيّة، فمنيت بالانتكاس، ومَن حصل على أغلب المقاعد، صار يتمنى الأربعة، ومنها ما إن استلم السُّلطة، أسرع إلى الأسلمة بتطبيقاته.
لا تستطيع الجماعات الدينيّة الاستمرار دون الأسلمة، هذا ما طُرح في النَّدوة أيضاً، لافتاً الأنظار إلى التَّعبير السّياسي المغلف بالشّعور الدّينيّ، فبعد فقدان التّمكن، صاروا إلى كتابة الحيطان، واستخدام الأجهزة لإثارة المشاعر، على سبيل الدَّعوة، في المحلات العامة، ووسائط النَّقل، وكلُّها وسائل للأسلمة.
لم يكن هذا النّشاط بريئاً مِن محاولة إثبات الوجود، والعودة إلى تجديد الصّحوة الدّينية، التي انحسرت عن مدن اعتبرتها عَقْر دارها، مثلما الحال في الثَّمانينيات. أخذت تنفذ هذه المظاهر بإدارة حزبيّة، فمَن يعترض يُشار إليه بعداوة الدّين، على أنّ الإسلام لا وجود له إلا عبر خطابهم.
لا أحد يستطيع الدّفاع عن جماعات الإسلام السياسيّ الأولى، فالتنظيمات الإرهابيَّة اليوم أفرعها، وتجهيل المجتمع غايتها، فقد حرصت، منذ نشأتها، على إدارة التّعليم بكوادرها، وضخه بالتكفير والكراهية، وربط العِلم بالدّين، كربط الدّين بالسّياسة، فأظهروا «الاعجاز العلمي»، وهو في حقيقة الأمر أسلمة للعلم، وعلمنة للدين، بينما للدين مجاله وللعلم مجال، والخلط بينهما يُعد ضرراً على الاثنين، كلّ هذه الأفكار وغيرها طُرحت في ندوة أصيلة.
كان راعي «أصيلة»، الوزير محمد بن عيسى، يحثُ على الحديث عن المستقبل، فالغالب مِن المداخلات كان ماضوياً، وقد نعطي الحقّ للمتحدثين، لأن الزمن عند الأحزاب الدينية بعد ألف عام، هو قبل ألف عام نفسه، كذلك الحقّ لراعي المنتدى، إذا كان ما نبه إليه كعب بن زُهير (ت: 26هج) واقعاً في المجالات كافة: «ما أرانا نقول إلا مُعاراً/ أو مُعاداً مِن قولنِا مكرورا»(ابن عبد ربّه، العقد الفريد)، لكنَّ بما يخص تطبيقات الإسلام السّياسيّ، وحاكميته المعلنة عند جماعة، والمخفية لدى أخرى، نجد كعباً قد أصاب في ما ذهب إليه، عطفاً على معاكسة الأحزاب الدينية لاتجاه الزمن، في تأسيسها ودعوتها وتطبيقاتها.
*كاتب عراقي



إقرأ المزيد