استثمارات الرياض مع واشنطن تخدم التحول المحلي
إيلاف -

"نحن لا نخلق فرصاً زائفة من أجل إرضاء أميركا أو إرضاء الرئيس ترمب، إنها فرص حقيقية"، هذه الجملة المفتاحية في حديث ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، تقدم تصوراً مختصراً واضحاً لفهم طبيعة الاتفاقيات السعودية – الأميركية التي أعلنت في واشنطن، وهي بذلك ليست عطايا مجانية لإدارة ترمب، بل فعلٌ يقوم على خطة بعيدة المدى، تجعل العلاقة الثنائية تخدم المصلحة السعودية أولاً وقبل كل شيء، فكل مشروع خارجي يجب أن يرتبط بتحولات داخلية جارية في المملكة، يستطيع المواطنون تلمس أثرها في معيشتهم مع الوقت، وتحسن من دخلهم الاقتصادي وتمنحهم مزيداً من الرفاهية وجودة الحياة.

الأمير محمد بن سلمان، وفي لقائه مع الرئيس ترمب في البيت الأبيض، قال: "نحن ننظر برؤية طويلة الأمد ولدينا فرص كبيرة تلبي احتياجات المملكة"، خارجاً بذلك من مربع التفاهمات السياسية التقليدية إلى منهجية اقتصادية تتأسس على احتياجات محددة، مثل: تطوير التكنولوجيا وتوسيع البنية التحتية الرقمية وتنويع مصادر الطاقة.

تتضح هذه المقاربة في حديث ولي العهد المفصل عن الذكاء الاصطناعي والرقائق الإلكترونية، فالسعودية كما قال تحتاج إلى قوة حوسبة ضخمة، وستنفق نحو 50 مليار دولار للاستفادة من هذه الرقائق، ومن المتوقع أن تتجاوز الاستثمارات هذا الحجم بكثير مستقبلاً. هذه الأرقام لا تعكس سباقاً لشراء التقنية، بل مساراً لبناء قطاع رقمي سيادي قادر على دعم الاقتصاد الوطني وتحويل البيانات إلى مورد فعلي، وتطوير تطبيقات عملية في التعليم والصحة والإدارة والخدمات العامة، خصوصاً أن القدرة الحاسوبية تُعد اليوم عنصراً من عناصر الأمن الاقتصادي، وهذا ما يجعل الاتفاقيات مع الشركات الأميركية جزءاً من استراتيجية وطنية طويلة الأمد، تهدف أيضاً من خلالها الرياض إلى توطين المعرفة وتدريب الجيل الجديد من السعوديين.

الاتفاقيات الصناعية والتقنية هي الأخرى جاءت لتعزيز هذه الرؤية، فالتفاهم حول الطاقة النووية المدنية يوفر للمملكة مدخلاً لتشييد قطاع متقدم يتيح تنويعاً في مصادر الإنتاج، وتقليلاً في الاعتماد على الوقود الأحفوري، ويمكن استخدامه أيضاً في الأغراض الطبية والبحث العلمي وتحلية المياه، أما "المعادن الحرجة" فالاستثمار فيها يربط السعودية بسلاسل الإمداد العالمية، في قطاع يشكل العمود الفقري لصناعات البطاريات والمركبات الكهربائية والروبوتات والتقنيات العسكرية، أي أن هذه "الصفقات" ليست تجارة مواد خام، بل مسعى لإدخال المملكة في صناعات ذات قيمة مضافة عالية!

ضمن هذا السياق جاءت تغريدة السفيرة السعودية في الولايات المتحدة الأميرة ريما بنت بندر، لتؤكد أن الاتفاقيات ستخلق فرصاً للسعوديين، لتعكس هذه المقاربة التي تحدث عنها الأمير محمد بن سلمان. فالغاية ليست ضخ الأموال في الخارج، بل استخدام هذه الشراكات لتوسيع سوق العمل المحلي ورفع مستوى المهارات لدى الجيل الجديد، وتحويل السعودية إلى مركز استثماري وجيواقتصادي في الشرق الأوسط، وهذا يتوافق مع ما تعمل عليه برامج "رؤية المملكة 2030" في رفع جودة التعليم الجامعي وتطوير التدريب التقني وتعزيز منظومات الابتكار والبحث العلمي.

على المستوى الإقليمي، تمنح هذه المشروعات المملكة موقعاً متقدماً في قدرتها على التأثير سياسياً، فالدولة التي تبني قطاع طاقة نووية مدنية، وتدخل في سلاسل الإمداد العالمية، وتستثمر بكثافة في مراكز البيانات والذكاء الاصطناعي، تصبح لاعباً مركزياً في أمن الطاقة والتكنولوجيا، وأكثر قدرة على الدفع باتجاه تخفيف الأزمات وجمع المختلفين للتوصل إلى رؤى عملانية تعزز السلم في الشرق الأوسط.

إن الفرص الحقيقية التي تحدث عنها الأمير محمد بن سلمان ليست عقوداً آنية ذات أثر مرحلي عابر، بل أدوات لبناء اقتصاد تنافسي قوي وقادر على التطور، وتنمية بشرية عالية تجعل المواطنين شركاء حقيقيين في التحول الاقتصادي، ودور إقليمي للمملكة أكثر توازناً وقوة وإقناعاً وإحلالاً للسلام الذي يستفيد منه الجميع.



إقرأ المزيد