"بين اللعب والذاكرة" في معرض تشكيلي بالصويرة المغربية
إيلاف -

إيلاف من الصويرة: احتضن فضاء العرض ببناية "برج باب مراكش" التاريخي بمدينة الصويرة، على هامش الدورة 26 لمهرجان "كناوة وموسيقى العالم"، معرضا تشكيليا تحت عنوان "بين اللعب والذاكرة"، جاء في شكل حوار فني بين فنانين بمسارين متباينين. يتعلق الأمر بعيسى جود وعبد القادر العسري، اللذان يقدمان، في هذا المعرض الذي تنظمه المديرية الإقليمية للثقافة بالصويرة، لغتين تشكيليتين تبدوان متنافرتين للوهلة الأولى، لكن أعمالهما تلتقيان بشكل غير متوقع، وتتقاطعان عبر حساسية مشتركة للذاكرة، والمكان ونظرة الإنسان.

بورتريهات وذاكرة جماعية
عند جود، هذا الفنان العصامي المنحدر من ورزازات (جنوب شرق المغرب)، يستمد الفن روحه من ذكريات الطفولة، من اللعب البسيط، ومن ضحكات الأمس، أما شخصياته المعبرة، التي تشبه أحيانا رسوم الأطفال، فهي بورتريهات متخيلة تنطلق بعفوية تجسد شكلا من أشكال الصمود في وجه الشدائد. بينما يستلهم الفنان من المواد المعاد تدويرها ومن أشياء الحياة اليومية، ليمنح للفعل الطفولي البسيط قيمة رمزية كجسر بين الأجيال.

أما العسري، فيرسم في عمق الزمن؛ كل لوحة لديه هي شظية من ذاكرة جماعية: ظلال باهتة، فرسان من قبائل الأمازيغ ، أسوار الصويرة المغمورة بالضباب. لذلك، تعكس أعماله ارتباطا حميميا بثقافة البلد، يعبر عنها من خلال الوجوه، والرموز والخامات، أما ألوانه الكثيفة والراقية فتدعو للتأمل الهادئ.

اللعب والمعنى
رغم اختلاف لغتيهما البصرية، يستجوب الفنانان علاقة زائر معرضهما بالأصل والهوية، وبما لا يزال ينبض بالحياة من الماضي في الحاضر. أحدهما يرسم خفة اللعب المحملة بالمعنى، والآخر ينقب في عمق التاريخ، فيما يعرض فنهما في فضاء واحد دون مواجهة مباشرة، فيتقاطعان عن بعد، باحترام متبادل: الأول يحكي الطفولة كوعد، والثاني يسائل التاريخ كأساس. معا، ينسجان جسرا هشا بين اللعب والذاكرة، بين العفوية والعمق، في معرض يدعو المتلقي إلى التنقل بين الخفة والوقار، بين نبض عالم يبنى، وندبة عالم يجب صونه.


باب مراكش
مما زاد من جمالية وقيمة تقديم أعمال جود والعسري أن يتم عرضها بفضاء العرض ببناية "برج باب مراكش"، الذي يعد من بين أفضل أماكن العرض الفني بالمغرب، سواء لجهة قيمته التاريخية، أو لهندسته التي تتضمن قاعات متفرقة، تبرز قيمة ما يعرض، بشكل يجعله يلعب دورا مهما في تقديم بهي لأعمال العارضين.

وتشكل هذه البناية، التي ترجع، حسب عدد من الكتابات التاريخية، إلى القرن الـ18، والتي تبرز الغنى التاريخي والحضاري لمدينة الصويرة، تحفة تاريخية بقيمة فنية تجعل الزائر يجمع بين بهاء المعمار الفريد لمكان العرض، وما يتم عرضه فيه من أعمال تشكيلية.

ويعد البرج واحدا من الحصون الدفاعية المهمة التي شُيِّدت لحماية المدينة والميناء من أي هجوم من الشرق والجنوب الشرقي، لذلك تم تدعيمه، وقتها، بعشرات المدافع. ويبلغ قطر البرج 35 مترا، فيما تصل مساحته إلى 980 مترا مربعا، كما يمكن أن يكون وُظّف لتخزين المؤن والأسلحة، وهو يتميز بالصلابة والمتانة، إذ بُني بالحجارة المنجورة، وهي التقنية الأوروبية المستعملة في كامل البنايات الأثرية بالمدينة، كما يتوزعه مدخل بممرين متعرجين متناظرين يفضيان إلى السطح، حيث توجد 3 قباب.

ونقرأ في وثيقة تقديمية، تعود لوزارة الثقافة المغربية، أننا إذا أخذنا بعين الاعتبار التواريخ التي دونت على شواهد القبور، فقد تم تشييد البرج على عهد السلطان مولاي عبد الرحمن، سنة 1846. أي بعد عامين من الحصار والقصف الذي عرفته مدينة الصويرة من طرف "دي جوانفيل"؛ وهو الهجوم الذي وقع بالتزامن مع معركة "إيسلي"، في شرق المغرب، التي جرت يوم 14 أغسطس 1844، وانتهت بانتصار الفرنسيين وفرضهم شروطا قاسية على المغرب، أهمها اقتطاع فرنسا لبعض الأراضي المغربية، وفرضها غرامة مالية على المغرب، ومنعها المغاربة من تقديم الدعم للجزائر، كما اشتهرت، في كتب التاريخ، باتفاقية "للا مغنية"، وقد وقّعت سنة 1845.

ولكن، وطبقا للنقوش وخطاطات عدد من المهندسين والطوبوغرافيين الأوروبيين، فإن هذا البرج كان موجودا خلال فترة حكم السلطان سيدي محمد بن عبد الله، مؤسس المدينة، والذي حكم المغرب ما بين 1757 و1790.

وعرف هذا البرج، الذي أصبح فضاء ثقافيا، بعدما كان حصنا عسكريا، تحولات كثيرة على مدى التاريخ الحديث للمغرب، حيث استُخدم مربطا لخيول جنود الاحتلال الفرنسي بالمدينة، قبل أن يتم التخلي عنه خلال خمسينيات القرن الماضي، ليخصص، خلال العقدين الأخيرين من القرن نفسه، لاحتضان بعض التظاهرات الفنية والحرفية.

وتم تصنيف البناية كمعلمة للتراث الوطني منذ 1924، وعرفت البناية تحولات مهمة، خاصة سنة 2007، حين تم ترميمها وإعادة تأهيلها من طرف وزارة الثقافة، وذلك بناء على طلب فنانين وفاعلين ثقافيين وجمعيات بالمدينة.

وكانت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونيسكو) قد اهتمت بالصويرة وأولتها عناية كبرى، خاصة فيما يتعلق بترميم جدرانها وبناياتها التاريخية، وبينها "برج باب مراكش". ونقرأ في نصب تذكاري يتوسط المدينة: "بناء على الاتفاقية المتعلقة بحماية التراث الثقافي العالمي تم تسجيل المدينة التاريخية للصويرة ضمن لائحة التراث العالمي. إن هذا التصنيف يرسخ القيمة العالمية الاستثنائية لهذا الإرث الثقافي، وذلك حفاظا عليه لفائدة الإنسانية جمعاء. الصويرة نموذج استثنائي لمدينة مُحصّنة من القرن الـ 18 بُنيت بشمال أفريقيا وفق مقاييس الهندسة العسكرية الأوروبية المعروفة في تلك الفترة، ومنذ إنشائها، ظلت المدينة ميناء تجاريا دوليا متميزا يربط المغرب والمناطق الصحراوية المجاورة بأوروبا وباقي بقاع العالم".



إقرأ المزيد